الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)
.الْجِنْسُ الرَّابِعُ: تَبْعِيضُ التَّدْبِيرِ: وَأَمَّا مَنْ دَبَّرَ جُزْءًا مِنْ عَبْدٍ هُوَ لَهُ كُلُّهُ، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِتَدْبِيرِ الْكُلِّ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ بَعَّضَ الْعِتْقَ عِنْدَ مَالِكٍ. وَأَمَّا: .الْجِنْسُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مُبْطِلَاتُ التَّدْبِيرِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. .كِتَابُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: وَإِنْ كَانَتْ لَا تُبَاعُ فَمَتَى تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ، وَبِمَاذَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ، وَمَا يَبْقَى فِيهَا لِسَيِّدِهَا مِنْ أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَمَتَى تَكُونُ حُرَّةً؟ .الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ تُبَاعُ أُمُّ الْوَلَدِ أَمْ لَا: .الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَتَى تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا قَبْلَ حَمْلِهَا مِنْهُ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا مَلَكَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ أَوْ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْ مِنْهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا وَلَدَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا، ثُمَّ مَلَكَهَا وَوَلَدَهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ إِذَا مَلَكَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إِذْ كَانَ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَنْ يَبِيعَ الْمَرْءُ أُمَّ وَلَدِهِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ». .الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: بِمَاذَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ: فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: كُلُّ مَا وَضَعَتْ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ كَانَتْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِثْلُ الْخِلْقَةِ وَالتَّخْطِيطِ. وَاخْتِلَافُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوِلَادَةِ أَوْ مَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ مَوْلُودٌ. .الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا يَبْقَى فِيهَا مِنْ أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ: فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَهُ فِيهَا الْوَطْءُ فَقَطْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ رَقَبَتَهَا بِالْبَيْعِ لَمْ يَمْلِكْ إِجَارَتَهَا، إِلَّا أَنَّهُ يَرَى أَنَّ إِجَارَةَ بَنِيهَا مِنْ غَيْرِهِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ حُرْمَتَهُمْ عِنْدَهُ أَضْعَفُ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا. فَسَبَبُ الْخِلَافِ تَرَدُّدُ إِجَارَتِهَا بَيْنَ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَطْؤُهَا، وَالثَّانِي بَيْعُهَا. فَيَجِبُ أَنْ يُرَجَّحَ أَقْوَى الْأَصْلَيْنِ شَبَهًا. .الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: مَتَى تَكُونُ حُرَّةً: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. .كِتَابُ الْجِنَايَاتِ: جِنَايَاتٌ عَلَى الْأَبْدَانِ وَالنُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى قَتْلًا وَجَرْحًا. وَجِنَايَاتٌ عَلَى الْفُرُوجِ وَهُوَ الْمُسَمَّى زِنًى وَسِفَاحًا. وَجِنَايَاتٌ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَهَذِهِ مَا كَانَ مِنْهَا مَأْخُوذًا بِحَرْبٍ سُمِّيَ حِرَابَةً إِذَا كَانَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ سُمِّيَ بَغْيًا مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ الْمُغَافَصَةِ مِنْ حِرْزٍ يُسَمَّى سَرِقَةً، وَمَا كَانَ مِنْهَا بِعُلُوِّ مَرْتَبَةٍ وَقُوَّةِ سُلْطَانٍ سُمِّيَ غَصْبًا. وَجِنَايَاتٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى قَذْفًا. وَجِنَايَاتٌ بِالتَّعَدِّي عَلَى اسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَهَذِهِ إِنَّمَا يُوجَدُ فِيهَا حَدٌّ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فِي الْخَمْرِ فَقَطْ، وَهُوَ حَدٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَعْدَ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَلْنَبْتَدِئْ مِنْهَا بِالْحُدُودِ الَّتِي فِي الدِّمَاءِ فَنَقُولُ: إِنَّ الْوَاجِبَ فِي إِتْلَافِ النُّفُوسِ وَالْجَوَارِحِ هُوَ إِمَّا قِصَاصٌ وَإِمَّا مَالٌ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الدِّيَةَ، فَإِذَا النَّظَرُ أَوَّلًا فِي هَذَا الْكِتَابِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: النَّظَرُ فِي الْقِصَاصِ، وَالنَّظَرُ فِي الدِّيَةِ. وَالنَّظَرُ فِي الْقِصَاصِ يَنْقَسِمُ إِلَى الْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ، وَإِلَى الْقِصَاصِ فِي الْجَوَارِحِ. وَالنَّظَرُ أَيْضًا فِي الدِّيَاتِ يَنْقَسِمُ إِلَى النَّظَرِ فِي دِيَاتِ النُّفُوسِ، وَإِلَى النَّظَرِ فِي دِيَاتِ قَطْعِ الْجَوَارِحِ وَالْجِرَاحِ. فَيَنْقَسِمُ أَوَّلًا هَذَا الْكِتَابُ إِلَى كِتَابَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: يُرْسَمُ عَلَيْهِ كِتَابُ الْقِصَاصِ. وَالثَّانِي: يُرْسَمُ عَلَيْهِ كِتَابُ الدِّيَاتِ. وَهَذَا الْكِتَابُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: النَّظَرُ فِي الْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ. وَالثَّانِي: النَّظَرُ فِي الْقِصَاصِ فِي الْجَوَارِحِ، فَلْنَبْدَأْ مِنَ الْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ. .كِتَابُ الْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ: إِلَى النَّظَرِ فِي الْمُوجِبِ (أَعْنِي: الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ). وَإِلَى النَّظَرِ فِي الْوَاجِبِ (أَعْنِي: الْقِصَاصَ) وَفِي إِبْدَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ بَدَلٌ. فَلْنَبْدَأْ أَوَّلًا بِالنَّظَرِ فِي الْمُوجِبِ. .الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: النَّظَرُ فِي مُوجِبِ الْقِصَاصِ: وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِلْآمِرِ سُلْطَانٌ عَلَى الْمَأْمُورِ (أَعْنِي: الْمُبَاشِرَ)، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ قَوْمٌ: يُقْتَلُ الْآمِرُ دُونَ الْمَأْمُورِ، وَيُعَاقَبُ الْمَأْمُورُ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: يُقْتَلُ الْمَأْمُورُ دُونَ الْآمِرِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: يُقْتَلَانِ جَمِيعًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. فَمَنْ لَمْ يُوجِبْ حَدًّا عَلَى الْمَأْمُورِ اعْتَبَرَ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ فِي إِسْقَاطِ كَثِيرٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ فِي الشَّرْعِ، لِكَوْنِ الْمُكْرَهِ يُشْبِهُ مَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ. وَمَنْ رَأَى عَلَيْهِ الْقَتْلَ غَلَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَ الِاخْتِيَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُكْرَهَ يُشْبِهُ مِنْ جِهَةٍ الْمُخْتَارَ، وَيُشْبِهُ مِنْ جِهَةٍ الْمُضْطَرَّ الْمَغْلُوبَ، مِثْلَ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ عُلُوٍّ، وَالَّذِي تَحْمِلُهُ الرِّيحُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ. وَمَنْ رَأَى قَتْلَهُمْ جَمِيعًا لَمْ يَعْذُرِ الْمَأْمُورَ بِالْإِكْرَاهِ وَلَا الْآمِرَ بِعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ. وَمَنْ رَأَى قَتْلَ الْآمِرِ فَقَطْ شَبَّهَ الْمَأْمُورَ بِالْآلَةِ الَّتِي لَا تَنْطِقُ. وَمَنْ رَأَى الْحَدَّ عَلَى غَيْرِ الْمُبَاشِرِ اعْتَمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ قَاتِلٍ إِلَّا بِالِاسْتِعَارَةِ. وَقَدِ اعْتَمَدَتِ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَتْلِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْقَتْلِ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ مَخْمَصَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ إِنْسَانًا فَيَأْكُلَهُ. وَأَمَّا الْمُشَارِكُ لِلْقَاتِلِ عَمْدًا فِي الْقَتْلِ، فَقَدْ يَكُونُ الْقَتْلُ عَمْدًا وَخَطَأً، وَقَدْ يَكُونُ الْقَاتِلُ مُكَلَّفًا وَغَيْرَ مُكَلَّفٍ، وَسَنَذْكُرُ الْعَمْدَ عِنْدَ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ. وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ عَامِدٌ وَمُخْطِئٌ أَوْ مُكَلَّفٌ وَغَيْرُ مُكَلَّفٍ، مِثْلَ عَامِدٍ وَصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، أَوْ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي قَتْلِ عَبْدٍ عِنْدَ مَنْ لَا يُقِيدُ مِنَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: عَلَى الْعَامِدِ الْقِصَاصُ، وَعَلَى الْمُخْطِئِ وَالصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا يَجْعَلُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالشَّافِعِيَّ فِي مَالِهِ عَلَى مَا يَأْتِي، وَكَذَلِكَ قَالَا فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ يَقْتُلَانِ الْعَبْدَ عَمْدًا أَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ، وَعَلَى الْحُرِّ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ يُقْتَلَانِ جَمِيعًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا اشْتَرَكَ مَنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ مَعَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ هَذِهِ شُبْهَةٌ، فَإِنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَبَعَّضُ وَمُمْكِنٌ أَنْ تَكُونَ إِفَاتَةُ نَفْسِهِ مِنْ فِعْلِ الَّذِي لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ كَإِمْكَانِ ذَلِكَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الدَّمُ وَجَبَ بَدَلُهُ، وَهُوَ الدِّيَةُ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي النَّظَرُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّغْلِيظَ لِحَوْطَةِ الدِّمَاءِ، فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْفَرَدَ بِالْقَتْلِ فَلَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ فِي الْقِيَاسِ. .صِفَةُ الْقَتْلِ: وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ شِبْهَ الْعَمْدِ، فَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ نَفْيُهُ إِلَّا فِي الِابْنِ مَعَ أَبِيهِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يَتَخَرَّجُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، وَبِإِثْبَاتِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِهِ فَرَّقُوا فِيمَا هُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ مِمَّا لَيْسَ بِعَمْدٍ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ فِي الْأَغْلَبِ إِلَى الْآلَاتِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْقَتْلُ، وَإِلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي كَانَ مِنْ أَجْلِهَا الضَّرْبُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ مَا عَدَا الْحَدِيدَ مِنَ الْقُضُبِ أَوِ النَّارِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: شِبْهُ الْعَمْدِ مَا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: شِبْهُ الْعَمْدِ مَا كَانَ عَمْدًا فِي الضَّرْبِ خَطَأً فِي الْقَتْلِ (أَيْ: مَا كَانَ ضَرْبًا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْقَتْلُ فَتَوَلَّدَ عَنْهُ الْقَتْلُ)، وَالْخَطَأُ مَا كَانَ خَطَأً فِيهِمَا جَمِيعًا. وَالْعَمْدُ مَا كَانَ عَمْدًا فِيهِمَا جَمِيعًا، وَهُوَ حَسَنٌ. فَعُمْدَةُ مَنْ نَفَى شِبْهَ الْعَمْدِ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ (أَعْنِي: بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْلَ أَوْ لَا يَقْصِدَهُ). وَعُمْدَةُ مَنْ أَثْبَتَ الْوَسَطَ أَنَّ النِّيَّاتِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا الْحُكْمُ بِمَا ظَهَرَ. فَمَنْ قَصَدَ ضَرْبَ آخَرَ بِآلَةٍ لَا تَقْتُلُ غَالِبًا كَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْغَالِبِ (أَعْنِي: حُكْمَ مَنْ قَصَدَ الْقَتْلَ فَقَتَلَ بِلَا خِلَافٍ). وَمَنْ قَصَدَ ضَرْبَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِآلَةٍ لَا تَقْتُلُ غَالِبًا كَانَ حُكْمُهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ هَذَا فِي حَقِّنَا لَا فِي حَقِّ الْآمِرِ نَفْسِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا شُبْهَةُ الْعَمْدِ فَمِنْ جِهَةِ مَا قَصَدَ ضَرْبَهُ. وَأَمَّا شَبَهُهُ لِلْخَطَأِ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ ضَرَبَ بِمَا لَا يَقْصِدُ بِهِ الْقَتْلَ. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إِنَّ قَتْلَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ دِيَتُهُ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» إِلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَإِنْ كَانَ أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ قَدْ خَرَّجَهُ، فَهَذَا النَّحْوُ مِنَ الْقَتْلِ عِنْدَ مَنْ لَا يُثْبِتُهُ يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَعِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهُ تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ، وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الضَّرْبَ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ وَالنَّائِرَةِ يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ. وَاخْتُلِفَ فِي الَّذِي يَكُونُ عَمْدًا عَلَى جِهَةِ اللَّعِبِ، أَوْ عَلَى جِهَةِ الْأَدَبِ لِمَنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَدَبُ. .شَرْطُ الْمَقْتُولِ: فَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَمَنْ فَرَّقَ فَضَعِيفٌ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ، وَكَذَلِكَ الْأَنْقَصُ بِالْأَعْلَى. وَمِنَ الْحُجَّةِ أَيْضًا لِمَنْ قَالَ: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ مَا رَوَاهُ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ بِهِ» وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ قَتْلُهُ مُحَرَّمًا كَقَتْلِ الْحُرِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِيهِ كَالْقِصَاصِ فِي الْحُرِّ. وَأَمَّا قَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ الذِّمِّيِّ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: يُقْتَلُ بِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: لَا يُقْتَلُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ غِيلَةً (وَقَتْلُ الْغِيلَةِ أَنْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ وَبِخَاصَّةٍ عَلَى مَالِهِ). فَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَهُ قَيْسُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْأَشْتَرُ: هَلْ عَهِدَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ قَالَ: لَا، إِلَّا مَا فِي كِتَابِي هَذَا، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فَإِذَا فِيهِ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِالْحَرْبِيِّ الَّذِي أُمِّنَ. وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ آثَارًا مِنْهَا حَدِيثٌ يَرْوِيهِ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلْمَانِيِّ، قَالَ: «قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ» وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، قَالُوا: وَهَذَا مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» أَيْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ دُونَ الْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ، وَضَعَّفَ أَهْلُ الْحَدِيثِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلْمَانِيِّ، وَمَا رَوَوْا مِنْ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَى إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِ تُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الذِّمِّيِّ، قَالُوا: فَإِذَا كَانَتْ حُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ فَحُرْمَةُ دَمِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، فَسَبَبُ الْخِلَافِ تَعَارُضُ الْآثَارِ وَالْقِيَاسِ. وَأَمَّا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَالُوا تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ، سَوَاءٌ كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ أَوْ قَلَّتْ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا. وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ لَا تُقْطَعُ أَيْدٍ بِيَدٍ (أَعْنِي: إِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فِي قَطْعِ يَدٍ)، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: تُقْطَعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ، وَفَرَّقَتِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْأَنْفُسِ وَالْأَطْرَافِ، فَقَالُوا: تُقْتَلُ الْأَنْفُسُ بِالنَّفْسِ، وَلَا يُقْطَعُ بِالطَّرَفِ إِلَّا طَرَفٌ وَاحِدٌ، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي بَابِ الْقِصَاصِ مِنَ الْأَعْضَاءِ. فَعُمْدَةُ مَنْ قَتَلَ بِالْوَاحِدِ الْجَمَاعَةَ النَّظَرُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّهُ مَفْهُومٌ أَنَّ الْقَتْلَ إِنَّمَا شُرِعَ لِنَفْيِ الْقَتْلِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَوْ لَمْ تُقْتَلِ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ لَتَذَرَّعَ النَّاسُ إِلَى الْقَتْلِ بِأَنْ يَتَعَمَّدُوا قَتْلَ الْوَاحِدِ بِالْجَمَاعَةِ، لَكِنْ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَقْتُلْ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَحَدٌ، فَأَمَّا إِنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي مِنْ قَتْلِهِ يُظَنُّ إِتْلَافُ النَّفْسِ غَالِبًا عَلَى الظَّنِّ، فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَبْطُلَ الْحَدُّ حَتَّى يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّسْلِيطِ عَلَى إِذْهَابِ النُّفُوسِ. وَعُمْدَةُ مَنْ قَتَلَ الْوَاحِدَ بِالْوَاحِدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}. وَأَمَّا قَتْلُ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى، فَإِنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ حَكَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ إِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ كَانَ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَلَكِنَّ دَلِيلَهُ قَوِيٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} وَإِنْ كَانَ يُعَارِضُ دَلِيلَ الْخِطَابِ هَاهُنَا لِلْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لَكِنْ يَدْخُلُهُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ وَارِدٌ فِي غَيْرِ شَرِيعَتِنَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا (أَعْنِي: هَلْ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا؟ )، وَالِاعْتِمَادُ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ هُوَ النَّظَرُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْأَبِ وَالِابْنِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقَادُ الْأَبُ بِالِابْنِ إِلَّا أَنْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ، فَأَمَّا إِنْ حَذَفَهُ بِسَيْفٍ أَوْ عَصًا فَقَتَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ عِنْدَهُ مَعَ حَفِيدِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا الْجَدُّ بِحَفِيدِهِ إِذَا قَتَلَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ أَوْجُهِ الْعَمْدِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَعُمْدَتُهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يُقَادُ بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ». وَعُمْدَةُ مَالِكٍ عُمُومُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَا رَوَوْهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يُقَالُ لَهُ: قَتَادَةُ حَذَفَ ابْنًا لَهُ بِالسَّيْفِ فَأَصَابَ سَاقَهُ، فَنُزِيَ جُرْحُهُ فَمَاتَ، فَقَدِمَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اعْدُدْ عَلَى مَاءِ قُدَيْدٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ بَعِيرٍ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ، لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ عُمَرُ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ ثَلَاثِينَ حِقَّةً وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَخُو الْمَقْتُولِ، فَقَالَ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ». فَإِنَّ مَالِكًا حَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَمْدًا مَحْضًا، وَأَثْبَتَ مِنْهُ شِبْهَ الْعَمْدِ فِيمَا بَيْنَ الِابْنِ وَالْأَبِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَحَمَلُوهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّهُ عَمْدٌ لِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّ مَنْ حَذَفَ آخَرَ بِسَيْفٍ فَقَتَلَهُ فَهُوَ عَمْدٌ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَرَأَى مَا لِلْأَبِ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى تَأْدِيبِ ابْنِهِ وَمِنَ الْمَحَبَّةِ لَهُ أَنْ حَمَلَ الْقَتْلَ الَّذِي يَكُونُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَمْدٍ، وَلَمْ يَتَّهِمْهُ إِذْ كَانَ لَيْسَ بِقَتْلِ غِيلَةٍ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ فَاعِلُهُ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الْقَتْلَ مِنْ جِهَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَقُوَّةِ التُّهْمَةِ، إِذْ كَانَتِ النِّيَّاتُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَمَالِكٌ لَمْ يَتَّهِمِ الْأَبَ حَيْثُ اتَّهَمَ الْأَجْنَبِيَّ، لِقُوَّةِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ. وَالْجُمْهُورُ إِنَّمَا عَلَّلُوا دَرْءَ الْحَدِّ عَنِ الْأَبِ لِمَكَانِ حَقِّهِ عَلَى الِابْنِ، وَالَّذِي يَجِيءُ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَادَ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي الْمُوجِبِ. .الْقِسْمُ الثَّانِي: النَّظَرُ فِي الْوَاجِبِ فِي الْقِصَاصِ: وَيَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِذَا كَانَ لِلْمَقْتُولِ أَوْلِيَاءُ صِغَارٌ وَكِبَارٌ أَنْ يُؤَخِّرَ الْقَتْلَ إِلَى أَنْ يَكْبَرَ الصِّغَارُ فَيَكُونَ لَهُمُ الْخِيَارُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الصِّغَارُ يَحْجُبُونَ الْكِبَارَ مِثْلَ الْبَنِينَ مَعَ الْإِخْوَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ كَانَتْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِقُرْطُبَةَ حَيَاةَ جَدِّي رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَفْتَى أَهْلُ زَمَانِهِ بِالرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُنْتَظَرَ الصَّغِيرُ، فَأَفْتَى هُوَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِانْتِظَارِهِ عَلَى الْقِيَاسِ، فَشَنَّعَ أَهْلُ زَمَانِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ التَّقْلِيدِ حَتَّى اضْطُرَّ أَنْ يَضَعَ فِي ذَلِكَ قَوْلًا يَنْتَصِرُ فِيهِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَوْجُودٌ بِأَيْدِي النَّاسِ. وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ فِي قِسْمَيْنِ: فِي الْعَفْوِ وَالْقِصَاصِ. .الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْقَوْلُ فِي الْعَفْوِ: أَحَدُهُمَا: فِيمَنْ لَهُ الْعَفْوُ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ، وَتَرْتِيبُ أَهْلِ الدَّمِ فِي ذَلِكَ. ثَانِيهُمَا: وَهَلْ يَكُونُ لَهُ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَلْ لَهُ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ؟ وَأَمَّا مَنْ لَهُمُ الْعَفْوُ فى حد القتل بِالْجُمْلَةِ فَهُمُ الَّذِينَ لَهُمُ الْقِيَامُ بِالدَّمِ، وَالَّذِينَ لَهُمُ الْقِيَامُ بِالدَّمِ هُمُ الْعَصَبَةُ عِنْدَ مَالِكٍ وَعِنْدَ غَيْرِهِ: كُلُّ مَنْ يَرِثُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ عَمْدًا إِذَا كَانَ لَهُ بَنُونَ بَالِغُونَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ أَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ بَطَلَ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي اخْتِلَافِ الْبَنَاتِ مَعَ الْبَنِينَ فِي الْعَفْوِ أَوْ فِي الْقِصَاصِ. وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ أَوِ الزَّوْجُ وَالْأَخَوَاتُ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لِلْبَنَاتِ وَلَا الْأَخَوَاتِ قَوْلٌ مَعَ الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ فِي الْقِصَاصِ أَوْ ضِدِّهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ كُلُّ وَارِثٍ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَفِي إِسْقَاطِ حَظِّهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَفِي الْأَخْذِ بِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْغَائِبُ مِنْهُمْ وَالْحَاضِرُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ. وَعُمْدَةُ هَؤُلَاءِ اعْتِبَارُهُمُ الدَّمَ بِالدِّيَةِ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْوِلَايَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلذُّكْرَانِ دُونَ الْإِنَاثِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَقْتُولِ عَمْدًا إِذَا عَفَا عَنْ دَمِهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ هَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ؟ وَكَذَلِكَ فِي الْمَقْتُولِ خَطَأً إِذَا عَفَا عَنِ الدِّيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا عَفَا الْمَقْتُولُ عَنْ دَمِهِ فِي الْعَمْدِ مَضَى ذَلِكَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لَا يَلْزَمُ عَفْوُهُ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ الْقِصَاصُ أَوِ الْعَفْوُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِالْعِرَاقِ. وَعُمْدَةُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَنَّ اللَّهَ خَيَّرَ الْوَلِيَّ فِي ثَلَاثٍ: إِمَّا الْعَفْوُ، وَإِمَّا الْقِصَاصُ، وَإِمَّا الدِّيَةُ. وَذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَقْتُولٍ سَوَاءٌ عَفَا عَنْ دَمِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ أَوْ لَمْ يَعْفُ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي جُعِلَ لِلْوَلِيِّ إِنَّمَا هُوَ حَقُّ الْمَقْتُولِ، فَنَابَ فِيهِ مَنَابَهُ، وَأُقِيمَ مَقَامَهُ، فَكَانَ الْمَقْتُولُ أَحَقَّ بِالْخِيَارِ مِنَ الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَصَدِّقِ هَاهُنَا هُوَ الْمَقْتُولُ يَتَصَدَّقُ بِدَمِهِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عَلَى مَنْ يَعُودُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} فَقِيلَ عَلَى الْقَاتِلِ لِمَنْ رَأَى لَهُ تَوْبَةً، وَقِيلَ عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ. وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي عَفْوِ الْمَقْتُولِ خَطَأً عَنِ الدِّيَةِ، فَقَالَ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: إِنَّ عَفْوَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ طَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ وَاهِبٌ مَالًا لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا فِي الثُّلُثِ، أَصْلُهُ الْوَصِيَّةُ. وَعُمْدَةُ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدَّمِ فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْمَالِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَخَصُّ بِكِتَابِ الدِّيَاتِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إِذَا عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنِ الْجِرَاحَاتِ، فَمَاتَ مِنْهَا هَلْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُطَالِبُوا بِدَمِهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ عَفَوْتُ عَنِ الْجِرَاحَاتِ وَعَمَّا تَئُولُ إِلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إِذَا عَفَا عَنِ الْجِرَاحَةِ وَمَاتَ فَلَا حَقَّ لَهُمْ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْجِرَاحَاتِ عَفْوٌ عَنِ الدَّمِ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ تَلْزَمُهُمُ الدِّيَةُ إِذَا عَفَا عَنِ الْجِرَاحَاتِ مُطْلَقًا، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَلْزَمُ الْجَارِحَ الدِّيَةُ كُلُّهَا، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُ مِنَ الدِّيَةِ مَا بَقِيَ مِنْهَا بَعْدَ إِسْقَاطِ دِيَةِ الْجُرْحِ الَّذِي عَفَا عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَأَمَّا مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَعْفُو عَنِ الدَّمِ فَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ مَعَهُ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ لَا يُسْقِطُ ذَلِكَ طَلَبَ الْوَلِيِّ الدِّيَةَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَفْوُهُ عَنِ الدَّمِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْوَلِيِّ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُسْقِطَ عَفْوَهُ عَنِ الْجُرْحِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَاتِلِ عَمْدًا يُعْفَى عَنْهُ، هَلْ يَبْقَى لِلسُّلْطَانِ فِيهِ حَقٌّ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: إِنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُسْجَنُ سَنَةً، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ (الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ): لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ يُعْرَفُ بِالشَّرِّ فَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى. وَلَا عُمْدَةَ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى إِلَّا أَثَرٌ ضَعِيفٌ. وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ وَأَنَّ التَّحْدِيدَ فِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَا تَوْقِيفَ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ. .الْقِسْمُ الثَّانِي: الْقَوْلُ فِي الْقِصَاصِ: ، وَمَتَى يَكُونُ؟ فَأَمَّا صِفَةُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْتَصُّ مِنَ الْقَاتِلِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَتَلَ، فَمَنْ قَتَلَ تَغْرِيقًا قُتِلَ تَغْرِيقًا، وَمَنْ قَتَلَ بِضَرْبٍ بِحَجَرٍ قُتِلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، قَالُوا: إِلَّا أَنْ يَطُولَ تَعْذِيبُهُ بِذَلِكَ فَيَكُونَ السَّيْفُ لَهُ أَرْوَحَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِيمَنْ حَرَقَ آخَرَ، هَلْ يُحْرَقُ مَعَ مُوَافَقَتِهِمْ لِمَالِكٍ فِي احْتِذَاءِ صُورَةِ الْقَتْلِ؟ وَكَذَلِكَ فِيمَنْ قَتَلَ بِالسَّهْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: بِأَيِّ وَجْهٍ قَتَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَعُمْدَتُهُمْ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَوَدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ». وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ حَدِيثُ أَنَسٍ «أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ امْرَأَةٍ بِحَجَرٍ، فَرَضَخَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَسَهُ بِحَجَرٍ، أَوْ قَالَ: بَيْنَ حَجَرَيْنِ»، وَقَوْلُه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَالْقِصَاصُ يَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ. وَأَمَّا مِمَّنْ يَكُونُ الْقِصَاصُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ لِمَكَانِ الْعَدَاوَةِ مَخَافَةَ أَنْ يَجُورَ فِيهِ. وَأَمَّا مَتَى يَكُونُ الْقِصَاصُ فَبَعْدَ ثُبُوتِ مُوجِبَاتِهِ، وَالْإِعْذَارِ إِلَى الْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا. وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شَرْطِ الْقِصَاصِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْضِعُ الْحَرَمَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا قَتَلَتْ عَمْدًا أَنَّهُ لَا يُقَادُ مِنْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَاتِلِ بِالسُّمِّ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُمَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَنْ سَمَّهُ. كَمُلَ كِتَابُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
|